تشغلني مسألة انتشار المعتقدات التي ترى أن البشرية تقف على أعتاب نهاية الزمان، وأن العالم على وشك الدخول في حرب النهاية (هرمجدون) بين الخير والشر، بالطبع كل طرف يعتقد أنه في معسكر الخير، وفي مواجهة مع معسكر الشر، على الرغم من أن البشرية استطاعت أن تصل إلى معايير أكثر دقة وصرامة من الناحية المنهجية للتمييز بين الخير والشر، وأن هذه المعايير باتت معروفة على نطاق واسع نتيجة لثورة الاتصالات والمعلومات التي بات من الصعب معها وجود مجتمعات معزولة تحكمها قيم خاصة بها.
لكن مهلًا، إننا نرى في العقدين الأخيرين، تراجعًا عن هذا التوافق العالمي حول مفهومي الخير والشر، مع إدراك الناس أنه لا يوجد شيء مؤكد في هذا العالم وأن "اللا يقين" و"ما بعد الحقيقة" حلا محل السرديات الكبرى التي انهارت والتي كانت تعطي إحساسًا زائفًا بالاطمئنان، ومع انتشار جائحة الكورونا في العالم، إزداد إحساس الإنسان بالعجز في مواجهة مخاطر كامنة في محيطه الحيوي والاجتماعي، وهو إحساس أدى إلى تغير جذري في المفاهيم. وعلى الرغم من أن البشرية تكاتفت أثناء محنة "كوفيد-19" على نحو أعطى مؤشرا على ظهور "وعي كوكبي" جديد بأن البشرية استطاعت من خلال توحيد جهودها في مواجهة الجائحة، وتنحية صراعاتهم جانبًا، رغم المشاحنات السياسية، حتى بخصوص المسؤولية عن تفشي الوباء، إلا أن البشر سرعان ما عادوا إلى الصراعات الدامية والحروب المدمرة بعد السيطرة على الجائحة، على النحو الذي نراه في حربي أوكرانيا وغزة، وكثير من الحروب الداخلية التي تشنها حكومات استبدادية على شعوبها، وتزايد مؤشرات العنف الاجتماعي في كثير من المجتمعات المتقدمة والنامية، وازداد شعور الأفراد بالعجز في مواجهة قوى عمياء لا يستطيعون إدراك دوافعها أو إدراكها هي ذاتها، بسبب التعقيد المتزايد في التفاعلات الإنسانية، ترتب عليه عجز عن إدراك الواقع المحيط بنا، ناهيك عن القدرة على التحكم فيه، والفشل في الاهتداء إلى سردية عامة تولد إحساسًا بالطمأنينة في هذا العالم، الأمر الذي دفع الناس إلى الإيمان بأن خلاصهم سيكون في عالم آخر، وباتوا يتعجلون النهاية التي تقربهم من هذا العالم الآخر. وولدت عقائد جديدة للخلاص تتنافي ليس فقط مع العقل وإنما مع الكثير من التعاليم الدينية المتعلقة بالخلاص والحياة الأخرى.
ولم أجد تفسيرًا لهذا الصعود لعقيدة حروب النهاية والإيمان بالحرب العالمية الوشيكة، أفضل من التفسير الذي يقدمه المؤرخ يوفال نوح هراراي في كتابه الأحدث "21 درسًا من القرن الحادي والعشرين"، الصادر في عام 2018، والذي صدرت ترجمة عربية له. يرى هراري أنه عندما يعجز العقل عن إدراك الواقع، فإنه ينشغل بسيناريوهات كارثية". ويصبح السؤال لماذا يعجز العقل عن إدراك الواقع؟ هل هذا العجز ناجم عن وعي الإنسان بمدى تعقد هذا الواقع وأن الواقع يزداد تعقيدًا؟ ربما تكون هذه الإجابة هي الأرجح، لاسيما مع الانتقال إلى مرحلة الذكاء الاصطناعي وامتلاك الآلات التي صنعها الإنسان وطورها لقدرات تفوق قدرات الإنسان. قد يعتقد البعض أن هذا العصر الجديد لن يكون فيه مكان إلا للأغنى والأكثر ذكاء ويتحدث البعض عن البشرية ستكون أفضل حالا إذا تم تقليص سكان إلى مليار نسمة فقط، يطلقون عليه "المليار الذهبي"، هذا افتراض أكثر من كونه حقيقة التي يصعب معرفتها، لكن هذا الافتراض قائم على حقيقة أن العالم الذي تحكمه تناقضات حادة وصراعات مريرة تقلص إمكانات التعاون فيما بين البشر والاستفادة من التقدم العلمي والفكري المتسارع، ولا تترك سوى مساحة محدودة للتفاهم الذي يؤدي إلى التعاون.
إننا في مواجهة لحظة حرجة في تاريخ البشرية قد تفسح المجال لصعود التيارات الدينية المتطرفة القادرة على تقديم إجابات لقطاعات من الجماهير اليائسة التي يزداد إحساساها بفقدان الأمل كل يوم، الأمر الذي يجعلها فاقدة للأمل في المستقبل أو في الحياة نفسها وتكون مستعدة للموت خصوصًا إذا اقتنعت بأنها قد حياة أفضل في الآخرة. لقد دخلنا في حلقة مفرغة من العنف والعنف المضاد مع صعود الفاشيات الدينية وأصبحنا في حاجة إلى تحالفات جديدة داخلية وعابرة للأوطان في مواجهة وجهي العملة: الاستبداد والفاشية الدينية، لا بد من التفكير في تطوير بدائل للوضع الراهن الذي لا يترك لما فرصة سوى الاختيار بين الاستبداد والفاشية الدينية.
--------------------------
بقلم: أشرف راضي